الأمر محرج يا سادة! ولكنهم أصروا عليَّ لأنهم يرون أني "مطوع" وعيني قصيرة! والوقت كان وقت زحام لا يحتمِل المفاوضات!
فقلتُ في نفسي فقط سأناولهم الأطباق إلى خلف الحجرات العائلية المغطاة بالستائر، ولن أرى شيئاً.. لكني حين ظهرتُ لأول وَهلة صُدِمتُ حقاً، وشيء من اللا شعور أصابني، وكل الأصوات حولي خَفتَت وكأني في حلم! ولم توقظني إلا يد المشرف على كتفي وهو يقول: أسرع يا مطوع!
ما ذلك يا سادة!
رأيت النساء يأكلنَ مع الرجال!
الصالة كلها مكشوفة والنساء متبرجات كأكثر ما يكون، وكاشفات وجوههنَ مع شيء من الشعر والسواعِد ويكأنهنَ في بيوتهن! ذلك أن المطعم مليء بالمُكيفات والمراوح فيدخلنَ النساء والشابات للتبرد من حر الشوارع!
عيني ترى جمال الشابات، وأنفي يشم أطيب الروائح والعطور هناك! وهن يأكلنَ ويتضاحكنَ أمام الرجال!
في منظر يفتِن أي رجل ولو كان راهباً متعبداً!
تريدون الحق يا سادة؟
لم أرَ رجلاً واحداً في تلك الصالة.
فالرجل لا يُحضِر نساء بيته ليأكلنَ أمام الرجال وهم ينظرون إليهن! وقبَّح الله الحرية والانفتاح الذي يريدون تطبيقه! وما ذلك إلا طريقاً إلى العهر والفساد.. واعذروني على شناعة الألفاظ!
قدَّمتُ وجبتين أو ثلاثة لبعض كبيرات السن في الطاولات أمام الباب، ثم غادرتُ مسرعاً إلى صالة الرجال.. المشرفون أخبروا المدير، وتم استدعائي إلى الإدارة، ويسألني المدير -وهو رجل ملتحي ويزعمون أنه ابن شيخ كبير- فقال لي: ما لك يا مطوع؟!
قلت له: ما لي؟ هذه صالة طعام؟!
هذه صالة أفراح وليس طعام!
فضحك وقال لي بكل برود: الضرورات تُبيح المحظورات!
ناقشته بشدة وأنا أكتم غضبي من جرأته على الدين، وسردت له ثلاثة أحاديث نبوية، تلك التي كنت أحفظها في ذلك الوقت، وأنا أدري أنه يعرفها وغيرها أكثر مني، ولكنه بدأ يبرر لي أن الحجرات المغلقة كان يقع فيها أمور أكبر من هذه، وأن هذا أخف الضررين، قلتُ له: ولِمَ لا تصنع حلاً وسطاً كأقل شي.. أن يتم تركيب ستائر مُتدلية من السقف، تنزل إلى سطح طاولة الطعام، فتغطي رؤوس وصدور الجالسين، بحيث ترى الرجل وامرأته من الخارج وهي متسترة، ولو كشفت وجهها لا يراها أحد.. ويتم حل المشكلة!
ولكنه بدأ بالمراوغة وأن جميع مطاعم عدن هكذا، وأنني سأعتاد الأمر!
خرجتُ من عنده وأقول ليته يحلق لحيته تلك، ولا أن يتستر بها أمام الناس ببعض القواعد الشرعية التي ليس هذا محلها!
"الضرورات تبيح المحظورات!"
نعم هذه قاعدة شرعية، ولكن هناك قاعدة شرعية أخرى تقيد هذه القاعدة وهي: "الضرورة تُقدَّر بقدرِها".
ثم أين الضرورة في هذه الصالة أصلاً؟!
لو اضطر الأمر يغلقها أو يحولها صالة رجالية وانتهى الأمر، وذمته سالمة صافية!
أما أن تُهيئ المنكر والمعصية للناس، وتتحجَّج أنها ضرورة، وتريد السلامة بعد هذا؟!
هيهات.. لن تشم ريحها حتى!
ولا زلتُ إلى الآن أذكر موقفاً شهماً حدث أمامي، حين أتى شاب صنعاني تبدو عليه (الشحطة) ومعه زوجته في السيارة، ثم نزل وحده وقال لي وللعمال أين صالة العائلات؟ أشرنا إليها فدخل وحده، وما أن دخل حتى خرج مسرعاً غاضباً وصوته ملء المطعم باللهجة الصنعانية: "جد أنا جليل حيا لو أديتها هانا" ويقصد: "أنا قليل حياء إن أحضرتُها هنا" يقصد زوجته.
ثم غادر المطعم على الفور، في مشهد كان الجميع ينظر إليه ويُخفون إعجابهم به، فقلتُ لهم: هذا هو الرجل الصح! فرَمَقوني بأعينهم، ثم انصرفنا.
ثم قصة أخرى مُحزنة أيضاً.. واعذروني، ولكنه الواقع!
ذلك أنه كان في كل ليلة كان يبقى الكثير من الطعام من بعد الزبائن وبعضه من المطبخ، فيضعونه في القمامة أعزكم الله!
بعض الطعام يكون نظيفاً جداً ولم يُمسك به أحد!
أو يأتي أحد المُبذرين -من المنظمات أو المسؤولين- ويحجز طعاماً بثلاثين أو أربعين ألفاً ثم لا يأكلون ولا حتى نصفه!
والباقي أكثره يُرمى بعد أن يأخذ بعض العمال ما يشتهونه منه، بدلاً عن قليل الطعام الذي يُقدم لنا!
ولم أكن أرتضي أن أأكل بعد أحد ولو لقمة واحدة! ولو كان طعاماً غير ممسوس!
ولم أكن أقبل أخذ (البقشيش!) التي فيها ذلة وخنوع للزبون، وهو يعطيك إياها متفضلاً عليك، فاليوم يعطيك وغداً يرفع صوته عليك إذا تأخرت وجبته!
كان العمال يستغربون من فعلي هذا، ولكني لم أكن أستغرب حين أرى بعضهم تتم إهانته من الزبائن! لأنهم هم الذين وضعوا أنفسهم في هذه الحالة!
ولكني لم أكن أعيب على من يأكلون ما بقي من طعام، فالطعام نظيف، وأكله أفضل من إهداره.
وذلك الطعام الذي كان يُرمى، يمكن أن يكفي أكثر من ثلاثين شخصاً يومياً.
ذهبتُ مرةً إلى المدير -المطوع مظهراً فقط!- وأخبرته أن هذا إهدار لنعمة الله رغم وجود من يستحقها.
أخبرته أنني يومياً في وقت الاستراحة، حين أذهب لصلاة العصر في المسجد القريب أرى الكثير من المُهمشين راقدين في الشوارع، باحثين عن الظل من حر الشمس وعن الطعام!
فلماذا لا نرتب الطعام في أكياس ونوزعه لهم؟! وقلتُ له أنا سأتكفل بالأمر في طريقي للمسجد.
ادامه مطلب ...